الخميس، 30 يونيو 2011

الإصلاح الدستوري وزنزانة نيني

لا شك أن مدخلنا إلى الإصلاح يجب أن تحكمه الحكامة الراشدة والواقعية والموضوعية، ومن مقتضيات ذلك تحديد معايير وتوفير شروط القوة وضمانات الأمانة ووجود الكفاءة
ووضع الإنسان المناسب في المكان المناسب، فنحن نحتاج إلى العارف بتاريخ بلده وخصوصية مكوناته، العالم بما يشتغل به من الإصلاح، المحنك الكيس والمدبر الأمين، لا يرتكن إلى ذاته ولا يستسلم لهواجسه، فاليوم ليس من قوة أو إرادة غير إرادة الشعب، فالشعب يريد... وما علينا إلا أن ننصت له. هنا تمثل بين أعيننا اللجنة الاستشارية المكلفة بمراجعة الدستور، هذه اللجنة التي لم تستمد مشروعيتها وصمت الهيئات عنها سوى من كونها معينة من لدن الملك، فمن هؤلاء الذين يريدون أن يشرّعوا لنا دون أهلية ومن غير كفاءة، ينوبون عنا دون أن نمنحهم أصواتنا؟
هؤلاء الذين تجرؤوا على الثوابت وسمحوا لكوامن أنفسهم ونوازع دواخلهم أن تتقيأ على مشروع دستورنا، هؤلاء الذين لم يستحقوا بأن يستأمنوا على شأن يحدد مصير الأمة ومعلق به استقرار البلاد.
هؤلاء الذين لم نطعن في اللجنة، التي جمعت بينهم رغم انتماءاتهم الإيديولوجية المعروفة وولاءاتهم السياسية المكشوفة، فقط لأننا كنا نعتقد أن صفاتهم الحقوقية أو الأكاديمية أو مجرد ثقة الملك فيهم ستجعلهم يتجردون من ذاتيتهم ويتخلصون من عقدهم وأحقادهم، ليقوموا بوظيفتهم دون زيادة أو نقصان، فهم مجرد «مكلفين بمهمة» تقنية تستدعي الخبرة والاستشارة، تبدأ بالاستماع والاطلاع على مذكرات الأحزاب والنقابات وهيئات المجتمع المدني، وتنتهي بتجميع المقترحات وتصنيفها وتقديم مسودة أولية لمشروع الوثيقة بكل أمانة. وإن كان الجهد المبذول في هاته العمليات مقدّرا، وإن كنا نعلم بأن اللجنة كان من بين أعضائها شرفاء عاملون ومجدون، فإنه كان هناك، في المقابل، أعضاء شرفيون حضورهم لا يتجاوز الرمزية لصفة يحملونها أو لتمثيلية صريحة أو خفية يحققونها.
لم يوكل إليهم أبدا أمر الدستور بالإطلاق، وهذا كان مطمئنا، فالآلية السياسية التي تجمع بين المسؤولين الحزبيين كانت مصفاة، حيث لم تكن فقط مجالا للتقديرات السياسية، ولكن أيضا آلية لاستشراف المآلات وتجنب الآفات، ويظل الملك الضامن لوحدة البلاد واستقرارها حكما يضع حدا للنزاعات السياسية، وأيضا لترهات وتجاوزات المتجاوزين.
فكيف تحولت هذه اللجنة من لجنة تقنية إلى لجنة سياسية تتجاوز الهيئات وتقدم في تقريرها ما لم تأت به المذكرات؟ وتخالف الملك الذي نبه إلى أن المس بالثوابت خط أحمر، وتشتغل خارج الدستور الذي ينص على أن الدين والملكية ليسا موضوع تعديل، ففي ذلك خروج عن الدستور وتجاوز للملك وتضييع للأمانة واستغلال للثقة، عندما يتم العمل على تغيير هوية دولة هي مرآة لهوية شعب. وإن من يتأهب لتغيير تاريخ المغرب وتقليعه من جذوره كمن يحاول من جيراننا تغيير جغرافيته؟
ونحيي، في نفس السياق، الأعضاء الذين قادهم إيمانهم أو موضوعيتهم أو عقلانيتهم إلى أن الدستور ليس مجالا لتصفية الحسابات والتعبير عن الأحقاد، أو حتى تحقيق الآمال الشخصية. هذا اختبار للوطنية وللإخلاص والوفاء للوطن ولما تأسس عليه منذ أن أصبح دولة، فلا يخفى الضعف في الفقه الدستوري والجهل بالهندسة الدستورية وقلة التكوين في النقاش الدستوري وانعدام حيلة الإبداع، بإطلاق شهاب لمفرقعات طشاشها لا يتجاوز الإخبار عن الحضور الشخصي بعيدا عن الفعل والإنجاز، فبالأحرى المبادرة والابتكار.
فهل من الديمقراطية والنضال الحقوقي أن ننكر على أزيد من 30 مليون مغربي إسلامية دولتهم التي بنوها بدمائهم وعرقهم وأسسوها وتوحدوا حولها من أجل الإسلام، دولة استمرت على أساس الإسلام، فاستحقت إمارة المؤمنين.
إن الذي يسعى إلى إلغاء إسلامية الدولة جاهل بتاريخها، فهل ينفي رباط المرابطين وتوحيد الموحدين، إلى أن ننتهي إلى جهاد مولاي علي الشريف، مؤسس «العلويين»، بالدين وعلى الدين ومن أجل الدين أقاموا الدولة ونشروا المدنية وعمروا الأرض وحاربوا من أجل الثوابت.
فإياكم ثم إياكم أن تخطئوا التاريخ، وتستهينوا بالشعب المغربي المسكون، في كل جينة من جيناته وفي كل قطرة من دمه، وإلى النخاع، بالإسلام دين أجداده وآبائه، وهو حريص على تمكينه لأبنائه وأحفاده.
قد يكون هؤلاء استثناء، ولكن لا يمكن أبدا أن ينقلب الاستثناء إلى قاعدة، حيث تتحكم الأقلية المتطرفة المصادمة لهوية المغاربة ومرجعيتهم، في رقاب الأغلبية وفي معتقداتها، لأن إلغاء إسلامية الدولة هو إلغاء للدولة المغربية نفسها، لذلك فتمكين هؤلاء من مجالس ولجن وهيئات ومنحهم صلاحيات البت في الأمور الكبرى، خطرٌ على الدولة وعلى هويتها.. وليعلم الجميع بأن أتاتورك حالة شاذة في تاريخ الدولة الإسلامية، وهي وليدة مناورات اللوبي الصهيوني وهواجس الانتقام الصليبي، فلن تتكرر الظاهرة الأتاتوركية، بكل بساطة لأن النساء المغربيات الحرات سيمتنعن عن حمل جنين أتاتوركي في أرحامهن. فالمغرب قلعة منيعة، والمغاربة صناع أمجاد الزلاقة ووادي لكة، لن يسمحوا أبدا بتهجينهم وتدجينهم، ولو استقوى الخصم بالشرق أو الغرب.
إن من استؤمن ولم يأمن الناس مكره وخبثه وانقلابه على من استأمنه، فلا أمانة له ولا خلق له.
ومثل هذه المواقف، سواء بشأن ما كان يدبر ليلا أو التي تم التعبير عنها في بعض الخرجات الإعلامية لبعض أعضاء اللجنة، قد يبرر تشكيل مجلس تأسيسي لمراجعة الدستور، وقد يكون موقفنا المبدئي من اللجنة، الذي أردناه حكيما وراشدا، خطأ استراتيجيا، باعتبار ما كانت ستؤول إليه الأمور. لكن الله اللطيف الخبير سلـّم.
في مقابل كل هذا، من حق الشعب المغربي الاطلاع على محاضر اشتغال اللجنة الاستشارية لمراجعة الدستور، والاطلاع على تفاصيل النقاش الذي دار لرصد طريقة الاشتغال والنظر في المعايير المعتمدة في الحسم في مضامين المسودة، ونواب الأمة ملزمون، قبل غيرهم، بالقيام بهذه الخطوة، فهذا مجال للتشريع في أعلى مقاماته، لا يمكن للبرلمان أن يبقى خارج العملية، وإن على مستوى بعدي من أجل التقييم ورفع اللبس عن العديد من الحيثيات.
كما من حق الإعلام أن يتناول بالنقاش الجانب التقني والسياسي لوثيقة الدستور وما حولها، بكل جرأة ودون تكميم الأفواه واعتقال الأقلام التي نحتاجها لإغناء الحوار المجتمعي والتأسيس لمرحلة ديمقراطية جديدة يجد فيها الكل مكانه بما يحفظ للوطن سيادته وللشعب دينه وللمؤسسات حرمتها لكي لا يجد الشعب نفسه، في يوم من الأيام، قد حكم عليه غيابيا، دون علمه وفي غفلة من أمره، بمصادرة حقه في الوجود وفي الاختيار. فلله درك يا رشيد نيني، كم نفتقدك في هذا النقاش لتقول ما لا يجرؤ أحد على قوله، أنت الذي طوعت الكلمات وفجرت الأفكار التي استعصت على الأقلام والألواح وأنطقت المداد كما سينطق يوما الحجر. فك الله أسرك وأطلق سراح قلمك وأنطق بالحق والبيان لسانك وآنس وحدتك في زنزانتك، فلا تضرنك مصادرة القلم وسجن الجسد، عندما تبقى الأفكار حرة طليقة تحلق في العوالم المباحة والممنوعة، فابـْرِ قلمك في خلوتك فإن الإفراج عن عمودك إن شاء الله قريب، لتشهره في وجه الاستئصاليين والمتآمرين على هذا الوطن.



بسيمة الحقاوي (برلمانية)

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق