الجمعة، 18 فبراير 2011

الجرعة المميتة للأنانية

في تونس كما في مصر واليمن والجزائر وكثير من الدول العربية، بمجرد ما أشهر الشعب أنيابه في وجه حاكميه، بادر هؤلاء الحاكمون إلى اتهام «الأيادي الخارجية»، وكأنهم لا يريدون أن يفهموا أن أياديهم الداخلية هي سبب المشكلة، وأنهم أثقلوا على شعوبهم بما فيه الكفاية، وأن وقت رحيلهم قد حان.
إنهم يطلبون من شعوبهم أن تكون غبية لكي تنطلي عليها الحيلة وتستمر في تحمل رؤية زعمائها الموميائيين بوجوههم المنفوخة بالبوطوكس وشعورهم المصبوغة بالأسود والمسرحة بالسوشوار لسنوات أخرى طويلة.
إنهم يطلبون منهم أن يكونوا مواطنين صالحين، وهم عندما يطلبون منهم ذلك فإنما يقصدون أن يكونوا مواطنين صالحين لهم ولأبنائهم وعائلاتهم.
يطلبون منهم أن يكونوا شعبا معدما وصالحا، أن يدخلوا أيديهم في جيوبهم فلا يعثروا سوى على فواتير الماء والكهرباء ولائحة بأسماء الدائنين الذين يطلبونهم أحياء أو أمواتا.
يطلبون منهم أن يكونوا مظلومين وعاقلين في الوقت نفسه، حتى لا يضيفوا إلى لائحة اتهاماتهم جنحة الرجولة.
إنهم يطلبون منهم أن يتوجعوا، لكن بصمت.
يطلبون منهم أن يكونوا حزينين بملامح مسرورة للغاية، وأن يكونوا مفجعين بشكل حضاري، حتى إذا صرخوا من شدة الألم أشعل الأمل والحبور في نفوس المفجعين من أمثالهم.
يطلبون منهم أن يذهبوا إلى النوم ببال مرتاح وأفكار مرتبة كملفات السكرتيرات، حتى ولو كانوا مبعثرين عن آخرهم ولا تهتدي أيديهم إلى جيوبهم إلا بمشقة بالغة.
يطلبون منهم أن يكونوا أمناء ولا تختلط جيوب الناس بجيوبهم، وأن يوقظوا ضمائرهم إذا اختلطت عليهم الجيوب، وأن ينوموها كلما دس أحدهم يده في جيوبهم.
إنهم يطلبون منهم أن يكونوا تعساء وودودين، أن يبحثوا في أعماقهم فلا يجدوا سوى الغضب وأن يعرفوا كيف يصرفون هذا الغضب بلا حمرة في العينين ولا حدة في الأنفاس ولا عض على الأسنان.
يطلبون منهم أن يمضغوا طعامهم بفم مغلق حتى لا تتعود أنيابهم على الظهور أكثر من اللازم، فهم يخافون أنياب الجياع البارزة ويخشون ألا تجد ما تطحنه يوما فيشهرونها في وجوههم السمينة مثل سكاكين اللصوص في المنعطفات الحادة.
إنهم يطلبون منهم أن يناموا بلا أحلام، وإذا حلموا أن يحكوا عنها في الغد بشكل خاص جدا حتى لا تثير الشبهات حول النيام الآخرين الذين لا يحلمون بالليل ويؤجلون أحلامهم إلى الغد، لكي يروها وهي تتحقق أمامهم في ضوء النهار.
إنهم يطلبون منهم أن يكونوا عميانا رغم أن عيونهم أوسع من نافذة، وأن تنعدم الرؤية أمامهم كلما مر أحدهم هاربا بقسطه من الكعكة التي أعدها الشعب، وألا يفتحوا أعينهم إلا عندما يحين دورهم التاريخي في جمع الفتات، الذي هو نصيبهم النضالي جزاء بصيرتهم المتفانية في العماء.
إنهم يطلبون منهم أن يعيشوا سعداء وبسطاء، أن يفترشوا أوراق الجرائد وأن يلتهموا العناوين العريضة والمواضيع الدسمة في نشرات الأخبار. أن يقطنوا أحذيتهم وأن يرتدوا الثياب المستعملة وأن يضحكوا بانتظام على الأقل مرتين في اليوم، وأن يحزنوا بكميات معقولة حتى لا يصابوا بتضخم في القلب، فيزاحموهم على أسرتهم النظيفة في المستشفيات.
إنهم يريدون منهم أن يبكوا بين حين وآخر، لذلك يسلطون عليهم كل تلك المسلسلات والبرامج الرديئة والمنشطين الثخينين في التلفزيون.
إنهم يطلبون منهم أن يفكروا دون أن يكلفوا أنفسهم عناء النزول إلى العمق، وأن يظلوا بالمقابل فوق السطح معرضين ضمائرهم لتيارات الهواء الباردة.
إنهم يطلبون منهم أن يتفانوا في أداء الواجب الوطني وأن يقنعوا بأقل الرواتب وأتفه المسؤوليات، وأن يحرقوا أعصابهم يوميا في كتابة التقارير التي لن يطالعها أحد، وأن تنشف أدمغتهم في إحصاء الأموال التي لا يعرفون البنوك التي ستسمن فيها، وأن يكون كل نصيبهم من هذه المحنة أقل بكثير من نصيب أولئك الموظفين الكبار الذين كل بطولاتهم أنهم يضعون توقيعاتهم الرديئة بأقلام حبرهم الضخمة وينصرفون لأخذ أتعابهم الأكثر ضخامة من سيغارهم الكوبي.
يطلبون منهم أن يكونوا متذمرين، لكن بقسمات مبتهجة، أن ترقد أمهاتهم في السرير بلا علاج وأن يفرحوا لمجرد أن الأمطار نزلت بكثرة هذا الموسم، أن يجدوا إشعارا بضريبة ثقيلة تحت الباب عوض أن يجدوا رسالة صديق، وأن تتبقى لديهم مع ذلك الرغبة في قراءة كتاب قبل النوم أو الجلوس قرب سرير الصغار وإسماعهم مرة أخرى حكاية ذلك الوحش الذي التهم بمفرده الغابة كلها ثم مات وحيدا بسبب التخمة.
يطلبون منهم أن يناموا باكرا ويستيقظوا باكرا لأن هذا من صفات المواطن الصالح، وهم لا يعرفون أن النوم في هذه الأيام أصبح يتطلب أدوية كثيرة واحتياطات أكثر بسبب كل الكوابيس المرعبة التي أصبحت تتسكع في أحلام الفقراء مثل القطط الضالة.
إنهم يطلبون منهم أن يكفوا عن إزعاجهم بمشاريعهم الطموحة وأفكارهم النيرة، أن يقتنعوا بأن الحرية امرأة مطلقة تنام مع الغرباء، وأن الكرامة ليست سوى ضربة حذاء ثقيل مغلفة بقفاز أبيض، وأن الشجاعة ليست سوى صورة صفراء لفارس ملثم يطعن غولا كانت معلقة على جدران المدارس الابتدائية.
إنهم يطلبون منهم أن يمنحوهم كل وقتهم وكل إعجابهم وكل مشاعرهم، لأنهم يحتاجونها جميعها ليقنعوا أنفسهم بجدوى العطور الثمينة التي يشترونها من عواصم العالم، وبجدوى تسريحات شعور زوجاتهم الناعمة وبجمالية جلستهم المتراخية على كراسيهم الوثيرة.
إنهم يطلبون منهم ألا يكونوا مبالغين وهم يحكون عن تعاستهم، أن يستعملوا الكلمات التي تليق بالنعيم الذي يرتعون فيه وأن يعرفوا حدود مياههم الإقليمية جيدا، أن يسحبوا شكواهم عندما لا يكون هناك استعداد من طرف سعادتهم لسماعها، وأن يبسطوا امتنانهم البالغ لقبولهم استقبال شعب حقير ووضيع مثلهم.
وفي الأخير، ينصحونهم بأن يعتمدوا على مواهبهم وأن يحلوا مشاكلهم بأنفسهم، رغم أنهم لم يتسببوا قط في خلق أي مشكل، والحل الوحيد الذي يقترحونه عليهم هو أن يدفعوا حياتهم بالتقسيط المريح من أجل تسديد الأخطاء التي ارتكبها غيرهم.
إنهم يطلبون منهم أن يتعلموا كيف يتخابثون في كلامهم، وأن يضعوا بين كل كلمة وأخرى عبارة شكر وامتنان.
إنهم يطلبون منهم أن يكونوا حريصين على حياتهم وأن يفكروا في المستقبل بجدية، ويعلمونهم في المسلسلات الرديئة كيف يصبحون رومانسيين وكيف يمكن أن تلتقي نظراتهم بنظرات فتاة في القطار فتسقط في حبهم على الفور ويتزوجونها كما يحدث في المسلسلات الرديئة التي يقدمونها لهم يوميا على مائدة الغذاء.
هكذا يصبحون مواطنين صالحين وتصير لهم زوجة وأبناء وواجبات وديون وفواتير لا تحصى وحسابات عند المحلات التجارية والصيدليات، وحسابات أخرى عويصة مع الجيران.
إنهم يطلبون من مثقفيهم أن يؤلفوا عائلة صغيرة وكتبا في أوقات الفراغ، أن يذهبوا كأي غبي مسرور إلى العروض السينمائية التي تبتز جيوب الناس.
أن يصبح لهم سطح تعيش فوقه وعتبة للفقر يعيشون تحتها.
أن ينجبوا أطفالا ويتزاحموا أمام أبواب المحلات التجارية لاقتناء الحليب الاصطناعي لهم، لأن أمهاتهم سيرفضن إلقامهم أثداءهن انسجاما مع تعاليم الحركة النسائية العالمية.
إنهم يطلبون منهم أن يأخذوا أطفالهم إلى النزهة خلال أيام الآحاد، لكي يضعوهم في حيرة من أمرهم ويجعلوهم يفكرون وقتا طويلا لماذا يقترحون عليهم دائما حديقة الحيوان.
إنهم يطلبون منهم أن يشتغلوا طوال حياتهم مثل بغال جبارة، وعندما يصلون سن التقاعد يصرفون لهم مرتبا حقيرا لا يكفي لإعالة كلب واحد من كلابهم الأنيقة.
إنهم يطلبون منهم أكثر ما يمكن من الهدوء في الأعصاب، وأقل ما يمكن من الغضب في النظرة، وتقريبا لا شيء من الكرامة.
إنهم يطلبون منهم أن يكونوا جائعين ورائعين، مضروبين ومتسامحين، عراة وشرفاء، مهشمين وكل جوارحهم تصفق لهم...
إنهم يطلبون المستحيل، إنهم ببساطة يطلبون رؤوس شعوبهم لا أقل ولا أكثر.
ولذلك فلا غرابة أن تنقلب الآية وتثور هذه الشعوب، وتصبح هي من يطالب برؤوس قادتها.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق