الخميس، 24 مارس 2011

الما والشطابة

بعد الحوار الأخير الذي أعطاه الاستقلالي حمدي ولد الرشيد، رئيس المجلس البلدي للعيون، لجريدة «العلم»، لسان حزب الاستقلال، يتضح أكثر وجاهة التحليل الذي أعطيناه لما وقع في العيون من تخريب وقتل. فقد ألقى  الجميع باللائمة على الاستغلال الإعلامي الفج للأحداث من طرف الحزبين الإسبانيين المتنافسين على صناديق الانتخابات، ولم ينتبه أحد إلى أن الاستغلال الحزبي الحقيقي والأكثر فجاجة هو الذي يدور فوق رمال الصحراء  بين حزبين مغربيين يشهران السكاكين في وجه بعضهما البعض، هما حزب الاستقلال وحزب الأصالة والمعاصرة.
وبسبب هذه الحرب المعلنة بين الحزبين، ذهب رئيس المجلس البلدي للعيون، في حواره مع جريدة حزبه، إلى حد اتهام الأصالة والمعاصرة بالتورط في أحداث العيون عندما قال إن الوالي أجلموس، الذي سبق له أن كان عاملا في قلعة السراغنة، جاء إلى العيون «لمناصبة حزب الاستقلال العداء» و«لخدمة أجندة حددتها له أطراف معروفة بمواقفها الشعبوية التي أضرت بمصالح المغرب في السابق وتواصل الإضرار بهذه المصالح في الوقت الراهن».
ويبدو أن حمدي ولد الرشيد نسي، في غمرة اتهامه للوالي أجلموس، أنه، ضمنيا، يتهم الوزير الأول الذي يحمله الدستور المغربي مسؤولية الإدارة والذي ليس سوى الأمين العام لحزب الاستقلال الذي ينتمي إليه ولد الرشيد.
إنه لمن المدهش أن ينسجم ويتناغم اتهام حمدي ولد الرشيد لفؤاد عالي الهمة بتحديد أجندة معادية لحزب الاستقلال في العيون لكي يطبقها الوالي أجلموس، مع اتهام ساقه عبد العزيز المراكشي، زعيم البوليساريو، في رسالته إلى الملك محمد السادس عبر جريدة «الشروق» الجزائرية، والتي حذر فيها الملك من خطر «بطانة السوء»، داعيا إلى «معاقبة ومحاسبة الحاشية التي لا تريد خيرا للمنطقة وتتآمر ضد أمنها واستقرارها».
هل هذا الانسجام والتناغم في توجيه حمدي ولد الرشيد وعبد العزيز المراكشي لمدفعيتيهما الثقيلتين في الاتجاه نفسه، مجرد مصادفة، أم إنه خطة مدروسة؟ الجواب ستبديه الأيام لا محالة.
هكذا، إذن، يرد رئيس المجلس البلدي، الناطق باسم خندق ولد الرشيد، ما وقع في العيون من ذبح وتخريب إلى توقيف الوالي لرخص الأراضي الممنوحة للبلدية التي يقودها حزب الاستقلال.
الجميع يعرف كيف انتهت الأمور في العيون، لكن قليلون هم الذين يعرفون كيف بدأت. والواقع أن القصة بدأت بحادث اعتقال عادي في تمارة عندما اعتقل الأمن مجموعة من اللصوص بعدما لاحظ المخبرون ظهور علامات الثراء المفاجئ عليهم. وخلال استنطاقهم حول مصدر الأموال التي وجدت بحوزتهم، اعترفوا بأنهم سرقوا مليار سنتيم من بيت مدير الإنعاش الوطني بالعيون.
وعندما راجعت الشرطة سجل الشكايات، لاحظت أن مدير الإنعاش الوطني بالعيون لم يلجأ إلى الأمن لكي يشتكي من اختفاء المليار من بيته. ومن هنا، بدأت فصول القصة، حيث تم اعتقال المدير بتهمة اختلاس أموال الإنعاش، وبدأ الوالي يحقق في البقع وبطاقات الإنعاش التي يستفيد منها حزب الاستقلال في العيون، فبدأت الخيام تنبت وتتكاثر مثل الفطر. وبعدها، تطورت الأمور إلى الذبح والقتل والتخريب.
وطيلة المدة التي عاشت خلالها العيون أياما سوداء، ظل حزب الاستقلال يراقب الوضع بصمت، منتشيا في قرارة نفسه بفشل أطماع غريمة السياسي في المنطقة وغرق عجلات جراره في رمال الصحراء المتحركة.
وهاهو الحزب اليوم يخرج عن صمته ويتهم، صراحة، حزب الجرار بالمسؤولية الكاملة عما وقع في العيون. وكأنه يحذر الحزب «الجرار» من مغبة تكرار الزلة نفسها والمغامرة باقتحام أسوار فاس التي طالب حزب الجرار سكانها، عبر بلاغ، بتحرير مدينتهم من قبضة المفسدين، أي من قبضة الاستقلاليين، وعلى رأسهم شباط الذي أحس بعجلات الجرار تقترب من حصونه، خصوصا بعد إشاعة أخبار حول وجود علاقة بين إحدى الجمعيات التي تسيرها زوجته وبين المنشطة المعتقلة في قضية شبكة الدعارة الراقية بفاس.
إن خطورة هذه الحرب المعلنة بين حزبي الاستقلال والأصالة والمعاصرة تتجسد في اتخاذها من المواطنين والمدن رهائن، حيث إن المواطنين وممتلكاتهم هم من يدفع الفاتورة الباهظة لهذه الشهية المفتوحة عن آخرها لحزب حديث العهد لاجتياح مراكز السلطة، مثلما يدفع المواطنون فاتورة الرغبة المرضية لحزب عتيق وانتهازي ظل يتوارث كراسي السلطة منذ الاستقلال إلى اليوم.
لهذا، فحزب الاستقلال يعول كثيرا على حزب الأصالة والمعاصرة لكي يستفيد من دروس «واقعة» العيون، لأن الاستقلاليين إذا أحسوا ببلدية فاس تنفلت من بين أيديهم فإنهم مستعدون لكي يمنحوا الأصالة والمعاصرة دروسا إضافية للتقوية حتى يفهم أن حزب الاستقلال تنين عجوز إذا قـُطعت له رأس نمت له رؤوس أخرى.
وشباط، الذي يتحكم في عشرات الجمعيات بواسطة المساعدات المادية التي تمنحها زوجته لرؤسائها، لديه الاستعداد لإحراق فاس لكي يدافع عن مصالحه ومصالح الحزب الذي يستعد للحصول على قيادته. فقد سبق له أن قام بذلك، بإيعاز من إدريس البصري، عندما كان وراء المظاهرات التي هزت المدينة سنة 1984 وانتهت باشتعال أحيائها وسقوط قتلى بالعشرات. وإلى جانب تحكم شباط في العديد من الأحياء السكنية الشعبية، التي يتوقف خبز سكانها اليومي على عطاياه التي يستخلصها من «الضرائب» المفروضة على رخص البناء، فإنه يتحكم أيضا في «ميليشيات» مكونة من خريجي السجون وذوي السوابق «يضبط» بهم الوضع الأمني العام في المدينة حسب درجة رضاه أو سخطه على ولاة الأمن الذين ترسلهم الداخلية إلى فاس.
ولعل مخاوف حزب الاستقلال لها ما يبررها. فالوافد الجديد، كما يسميه خصومه، يسير اليوم مدنا بكاملها، إما مباشرة عبر عمداء ينتمون إلى صفوفه، كمراكش وطنجة، أو بالتدبير الحزبي المفوض، كما يحدث في الرباط التي يسيرها عمدة اتحادي بتيليكوموند الأصالة والمعاصرة، والدار البيضاء التي يسيرها شكليا ساجد بينما العمدة الحقيقي هو بريجة، نائب ساجد، الذي ينتمي إلى الأصالة والمعاصرة.
ولعل قمة التناقض في مواقف هذا الحزب هي إصدار أمانته الجهوية بجهة الدار البيضاء الكبرى بلاغا تحمل فيه شركة «ليدك» مسؤولية الفيضانات التي ضربت المدينة مؤخرا، فيما يتكلف بريجة، نائب العمدة، المنتمي إلى حزب الأصالة والمعاصرة، بمهمة الدفاع عن الشركة الفرنسية في المحطات الإذاعية والتلفزيونية. «شي يكوي وشي يبخ».
وضعُ حزب الأصالة والمعاصرة يدَه على مسؤولية التسيير في بعض المدن ومحاولـَته انتزاع مدن أخرى  من براثن حزب الاستقلال ووضعها تحت أقدامه، مهمة لا تنتهي دائما بسلام.
وقد كان حزب الأصالة والمعاصرة يعتقد أن وضعه مدينة الحسيمة بالكامل تحت سيطرته سيجعل هذه المدينة في منأى عن القلاقل، إلى أن ظهر أن نزاعا بسيطا في منطقة «بوكيضارن»، قلب قبيلة بني ورياغل التي شهدت معارك ضارية بين الثوار والجيش سنة 1959، بين عائلتين ولجوء السلطة إلى هدم بيت إحداهما، كاف للتسبب في مواجهات عنيفة بين المواطنين ورجال الأمن، استعمل فيها الرصاص المطاطي والغازات المسيلة للدموع.
ها نحن، إذن، أمام بدايات نسخة جديدة من مخيم «أكديم إزيك»، في الريف هذه المرة. فالمواطنون، الذين بدأت مطالبهم اجتماعية صرفة، وجدوا من يتبنى «قضيتهم» ويركب عليها سياسيا في مدريد وهولندا وبروكسيل، حيث معاقل جمعيات غلاة المطالبين بالحكم الذاتي في الريف.
ولا بد أن حزب الاستقلال، الذي كان إهماله للريف في فجر الاستقلال سببا مباشرا في انتفاضة 1959، يفرك يديه فرحا وهو يرى شباب المدينة، التي أكمل حزب الأصالة والمعاصرة وضع يده عليها بعد «الزلزال» الأخير الذي ضربها وانتهى بأغلب مسؤوليها في السجن، ينتفض ويقطع الطرق احتجاجا على البطالة والتهميش.
وبعيدا عن المناوشات الحزبية الصغيرة والحروب الانتخابية الضيقة، فما حدث في العيون والحسيمة يكتسي خطورة بالغة تستدعي وضع الوزير الأول لأحقاده الحزبية وأطماعه العائلية والسياسية جانبا، والانكباب على دراسة المطالب الاجتماعية لمواطني المدينتين، لسبب بسيط هو أن هاتين المدينتين لديهما وضع تاريخي خاص، فهما معا كانتا واقعتين تحت الاستعمار الإسباني، وحتى عندما استعادهما المغرب ظلت عيون إسبانيا مسلطة عليهما طمعا في تحويلهما إلى حجرتين في حذاء المغرب تعيقان مسيرته.
ولذلك، فعندما يهدد حزب الهمة مصالح آل ولد الرشيد في الصحراء ويقود المسيرات في الشوارع ويهدد بالقيام بمسيرة نحو سبتة وقطع الماء عن مليلية، تجيبه إسبانيا في البرلمان الأوربي وتحرك خلاياها النائمة في بعض جمعيات الريف، لكي تركب على المطالب الاجتماعية للمواطنين وترفع شعارات لا تختلف كثيرا عن الشعارات التي يرفعها بوليساريو الداخل.
إن الحل الوحيد لتجنب ركوب الانفصاليين والانتهازيين الحزبيين على مشاكل ومآسي المواطنين الاجتماعية هو الانكباب بسرعة وفعالية على إيجاد حلول لها. والوسيلة الوحيدة والحضارية لكي يعبر المواطنون عن احتجاجهم هي التعبير السلمي، بلا حاجة إلى إحراق سيارات الأمن أو الممتلكات العمومية.
كما أن إشهار السلطة للعصا في وجه كل من يرفع لافتة احتجاجية وتكسير أسنانه، لا يساعد سوى على المزيد من الاحتقان المؤدي إلى المزيد من العصيان الاجتماعي.
ولهذه المهمة خلقت الحكومات. وإذا كانت حكومة عباس الفاسي غير قادرة على تحقيق السكن اللائق للمغاربة والشغل الذي يحفظ كرامتهم، فالباب أعرض من أكتافها.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق