ليس مفاجئا أن تكون أغلب الشعارات، التي يرفعها المتظاهرون في شوارع المدن المغربية، تطالب بمحاربة الفساد. فقد أصبح هناك وعي جماعي في المغرب بأن عدو الشعب الأول هو الفساد.
لكن من سيحارب هذا الفساد إذا كان القضاء في المغرب هو العش الذي يتربى فيه الفساد ويبيض.
إن حال من يريدون إصلاح أحوال المغرب دون البدء بإصلاح أحوال القضاء كمن يريدون بناء سقف بيت دون وضع الأساسات. إذا كان من الممكن بناء سقف بيت بدون دعامات، ففي هذه الحالة يمكن إصلاح أحوال المغرب بدون إصلاح قضائه، وهذا طبعا من رابع المستحيلات.
ومادام وكلاء الملك العامون الذين وصلوا سن التقاعد ملتصقين بكراسيهم، فإن مشروع إصلاح القضاء سيظل مؤجلا، لأن الفساد القضائي المتفشي في محاكم المملكة سببه استبداد هؤلاء الوكلاء العامين للملك وبقاؤهم في مناصبهم، إلى درجة أنهم أطلقوا جذورهم في كل مؤسسات المدن التي «خيموا» بها عشرات السنين.
والله ثم والله لن تقوم لهذه البلاد قائمة مادام وكلاء الملك العامون الذين وصلوا سن التقاعد لاصقين بكراسيهم. والله ثم والله لن يصلح أمر القضاء في هذه البلاد مادام الثلاثي «بشر» المفتش العام لوزارة العدل، و«لديدي» الكاتب العام لوزارة العدل، و«عبد النبوي» مدير الشؤون الجنائية والعفو، خالدين في مناصبهم.
إنه لمن العار أن يظل قاض كالمستاري وكيلا عاما للملك على مراكش منذ ثلاثين سنة، بينما زوجته القاضية رئيسة للمحكمة التجارية. «شي يكوي وشي يبخ». ومن العار أن يشارف الوكيل العام للملك بأكادير، السيد «الحبيب دحمان»، على الثمانين سنة ويقضي بأكادير 23 سنة كاملة دون أي تغيير.
بعد نجاحهم بشكل باهر في تمييع الحياة الحزبية وتحويلها إلى رصيف لممارسة الدعارة السياسية، ها نحن نرى كيف يحاول بعض السياسيين تمييع تظاهرات شباب 20 فبراير بعدما ميعوا الحكومة والبرلمان.
ومنذ أن عبر الاتحاد الاشتراكي عن موقفه الداعم لحركة 20 فبراير وتظاهراتها خلال مجلسه الوطني الأخير، الذي عاد إليه الثلاثي الغاضب بعد انتهاء فترة الحداد على الديمقراطية الداخلية، لم يعد هذا الحزب يعرف أي موقف يثبت عليه.
ولعل قمة التناقض في المواقف السياسية للاتحاد الاشتراكي ظهرت خلال مسيرات 20 مارس الأخيرة عندما خرج برلمانيون وقياديون في الحزب للمشاركة إلى جانب المتظاهرين الذين يطالبون بحل الحكومة والبرلمان.
كان هذا الموقف من جانب الاتحاديين الذين خرجوا في المسيرة سيصير مشرفا وباعثا على الاطمئنان على حال الحياة الحزبية المغربية لولا أن الحكومة، التي يطالب المتظاهرون بإسقاطها بسبب فسادها، يتوفر فيها حزب الاتحاد الاشتراكي على وزراء. كما أن البرلمان الذي يطالبون بحله بسبب لا ديمقراطيته يوجد لدى الحزب داخله فريق نيابي.
كيف إذن يستقيم أن يخرج برلمانيون وقياديون في الاتحاد الاشتراكي للمطالبة بإسقاط حكومة وبرلمان يشاركون فيهما ويتقاضون أجورا شهرية نظير هذه المشاركة.
والمصيبة أن الاشتراكيين لم يكونوا وحدهم من حاول الركوب على موجة تظاهرات 20 فبراير و20 مارس، بل نزلت معهم إطارات من حزب التقدم والاشتراكية المشارك في الحكومة هو الآخر. أما العدالة والتنمية فقد نزل ثلاثة من برلمانييه ليشاركوا في مسيرة المطالبة بحل البرلمان وإسقاط الحكومة.
التمرد الذي تعيشه هذه الأيام سجون حفيظ بنهاشم، أحد بقايا جلادي سنوات الرصاص، بسبب انتفاضة سجناء ما يسمى بالسلفية الجهادية، يطرح علينا جميعا سؤالا أخلاقا وإنسانيا قبل أن يكون قانونيا.
إذا كان الملك شخصيا قد قال في حواره الصحافي مع جريدة «الباييس» الإسبانية إن محاكمات المتهمين في ملفات الإرهاب شابتها تجاوزات، فلماذا بعد مرور ثمان سنوات على اعتقال كل هؤلاء السجناء لم يراجع القضاء ملفات هؤلاء الآلاف من السجناء الذين ملأ بهم الجنرال العنيكري وزبانيته سجون المملكة.
نحن هنا لا نتحدث عن المعتقلين الذين تورطوا في جرائم دم، بل عن مئات المعتقلين الآخرين الذين جرفتهم الحملة في طريقها، ووجدوا أنفسهم متابعين بقانون الإرهاب الذي لا أحد اليوم يعرف سبب بقائه.
فهناك معتقلون يقضون عقوبات بالإعدام يطالبون اليوم إما بمراجعة ملفاتهم أو تنفيذ حكم الإعدام فيهم. وهناك آخرون محكومون بالمؤبد أو بمدد تتراوح ما بين عشرين وثلاثين سنة يرتمي بعضهم من سطوح السجن، وآخرون يضرمون النار في أنفسهم. فماذا تنتظر وزارة العدل لكي تفتح هذا الملف وتصحح تجاوزاته وتغلقه إلى الأبد؟.
إن أول شيء كان يجب أن يحدث بعد خطاب الملك يوم 9 مارس هو إسقاط هذا القانون، الذي يطلق يد الأجهزة الأمنية والقضائية بحرية كاملة لاعتقال المشتبه فيهم والاحتفاظ بهم رهن الاعتقال خارج الضوابط القانونية.
كنا ننتظر أن يهب وزير الخارجية الطيب الفاسي الفهري لنجدة تسعين ألف مغربي عالقين في ليبيا بين قصف قوات التحالف وبنادق العقيد معمر القذافي وأتباعه. لكن المفاجأة هي أن سعادة الوزير أشاح بوجهه عن ليبيا وجمع حقائبه وذهب إلى واشنطن لكي يلتقي هيلاري كلينتون وصقريها «ويليام بورنز» و«جفري فيلتمان»، ويعطي حوارات للقنوات التلفزيونية الأمريكية يشرح فيها المشروع المغربي الإصلاحي للدستور.
وبينما تكفل الطيب الفاسي الفهري ببيع جلد الدب للأمريكيين حتى قبل اصطياده، رأينا كيف ذهب أربعة وزراء مغاربة آخرين إلى باريس لكي يبيعوا السمك في البحر لنيكولا ساركوزي.
إنها لمهزلة حقيقية أن يسارع كل هؤلاء الوزراء إلى «بيع» مشروع الدستور المقبل للأوربيين والأمريكيين حتى قبل أن يتوصل رئيس اللجنة باقتراحات الأحزاب السياسية حول الإصلاحات الدستورية المنتظرة، وحتى قبل أن تشرع اللجنة في التشاور مع ممثلي الشعب وقواه الحية، أي المعنيين الأصليين بهذا الدستور الجديد. «حتى يزيد وسميه سعيد».
هذا التسرع من جانب المغرب الرسمي لتسويق بضاعة لم تظهر في السوق بعد، يعكس في الواقع استفحال عقدة الأجنبي لدى من يحكمونا، وعدم استيعابهم بعد للمتغيرات التي تحدث حولهم في العالم العربي.
وإذا كان هناك من درس يجب استخلاصه مما حدث في تونس ومصر، ومما يحدث في ليبيا والأردن وسوريا واليمن، فهو أن أول وآخر من يجب الاحتكام إلى رأيه والتشاور معه حول الدستور الذي يجب أن يكون لديه هو الشعب وقواه الحية، وليس باريس أو واشنطن أو أي عاصمة أوربية أو غربية أخرى.
عندما يحكم ضدنا القاضي العلوي، قبل أسبوعين في الرباط، بستة عشر مليون سنتيم لصالح نور الدين الصايل، لمجرد أننا أعدنا نشر تقارير المجلس الأعلى للحسابات التي أنجزها زملاؤه القضاة حول المركز السينمائي، فإن حكم الإدانة، في الحقيقة، ليس موجها إلينا، بل إلى قضاة المجلس الأعلى للحسابات المحلفين الذين أنجزوا تقاريرهم حول هذه المؤسسة.
وعندما يحكم ضدنا قاض آخر في الدار البيضاء، الأسبوع الماضي، بثمانية ملايين سنتيم لمجرد أننا كتبنا أن المخرج نور الدين الخماري صرف ملايين الدعم التي منحها إياه والي آسفي السابق من جيوب دافعي الضرائب على سهرات مهرجانه السنوي ومشروباته الروحية، فإن حكم الإدانة ليس موجها ضدنا وإنما ضد كل من يطالب بمحاسبة المستفيدين من المال العام وأوجه صرفهم لهذا المال.
فكأنما هناك جهة في القضاء تريد أن تسفه تقارير قضاة المجلس الأعلى للحسابات وتبعث رسالة مطمئنة إلى مدراء المؤسسات العمومية والمنتخبة تشجعهم على أن يزيدوا في نهبهم، فالقضاء لا يغمض فقط عينه عنهم بل إنه مجند لسحق كل قلم يطالب بتفعيل قرارات المجلس الأعلى للحسابات واسترجاع أموال دافعي الضرائب المنهوبة.
وإننا، والله، لنقف مندهشين ونحن نرى سرعة القضاء في إدانتنا بالغرامات المتتالية، فقط لأننا نعلق على ما نشره قضاة المجلس الأعلى للحسابات من تجاوزات واختلاسات. وبالقدر ذاته، نندهش من تكاسل هذا القضاء وتخاذله وجبنه عن تقديم ملفات كل هؤلاء المسؤولين الذين أحصى قضاة المجلس تجاوزاتهم الخطيرة أمام القضاء لكي يقول كلمته فيهم.
بعد الحوار الأخير الذي أعطاه الاستقلالي حمدي ولد الرشيد، رئيس المجلس البلدي للعيون، لجريدة «العلم»، لسان حزب الاستقلال، يتضح أكثر وجاهة التحليل الذي أعطيناه لما وقع في العيون من تخريب وقتل. فقد ألقى الجميع باللائمة على الاستغلال الإعلامي الفج للأحداث من طرف الحزبين الإسبانيين المتنافسين على صناديق الانتخابات، ولم ينتبه أحد إلى أن الاستغلال الحزبي الحقيقي والأكثر فجاجة هو الذي يدور فوق رمال الصحراء بين حزبين مغربيين يشهران السكاكين في وجه بعضهما البعض، هما حزب الاستقلال وحزب الأصالة والمعاصرة.
وبسبب هذه الحرب المعلنة بين الحزبين، ذهب رئيس المجلس البلدي للعيون، في حواره مع جريدة حزبه، إلى حد اتهام الأصالة والمعاصرة بالتورط في أحداث العيون عندما قال إن الوالي أجلموس، الذي سبق له أن كان عاملا في قلعة السراغنة، جاء إلى العيون «لمناصبة حزب الاستقلال العداء» و«لخدمة أجندة حددتها له أطراف معروفة بمواقفها الشعبوية التي أضرت بمصالح المغرب في السابق وتواصل الإضرار بهذه المصالح في الوقت الراهن».
ويبدو أن حمدي ولد الرشيد نسي، في غمرة اتهامه للوالي أجلموس، أنه، ضمنيا، يتهم الوزير الأول الذي يحمله الدستور المغربي مسؤولية الإدارة والذي ليس سوى الأمين العام لحزب الاستقلال الذي ينتمي إليه ولد الرشيد.
إنه لمن المدهش أن ينسجم ويتناغم اتهام حمدي ولد الرشيد لفؤاد عالي الهمة بتحديد أجندة معادية لحزب الاستقلال في العيون لكي يطبقها الوالي أجلموس، مع اتهام ساقه عبد العزيز المراكشي، زعيم البوليساريو، في رسالته إلى الملك محمد السادس عبر جريدة «الشروق» الجزائرية، والتي حذر فيها الملك من خطر «بطانة السوء»، داعيا إلى «معاقبة ومحاسبة الحاشية التي لا تريد خيرا للمنطقة وتتآمر ضد أمنها واستقرارها».
لا يسع المرء سوى أن يشعر بالسعادة وهو يرى أن الغالبية الساحقة من الشعارات والمطالب، التي رفعها المتظاهرون في شتى ربوع المملكة يوم 20 مارس الأخير، كنا سباقين إلى المناداة بها والمطالبة بتحقيقها.
وعوض أن نظل لوحدنا نصرخ كل يوم في أعمدتنا، أصبحنا مدعومين بعشرات الآلاف من كتاب الأعمدة الذين يحررون شعاراتهم ومطالبهم وآراءهم وتحاليلهم المركزة والذكية للوضع فوق لافتاتهم ويافطاتهم وقمصانهم، ثم ينزلون بها إلى الشوارع والساحات لكي يبلغوها إلى من يهمهم الأمر.
مرحبا بكم جميعا في النادي، فقد أدمنا الصراخ لسنوات طويلة كل يوم منددين بلصوص المال العام ومفسدي الحياة الاقتصادية والسياسية والأخلاقية، لكن لا أحد أراد الاستماع إلى صراخنا، وها أنتم تضمون مسيراتكم الصاخبة إلى صراخنا اليومي، لعل هؤلاء المصابين بالصمم في أبراجهم العاجية يفتحون آذانهم قليلا لسماع صوت الشعب القادم من الأزقة والساحات.
ولا بد أن أولئك الذين ظلوا ينعتوننا بزرّاع اليأس والسوداويين، ويسمون انتقاداتنا للمسؤولين الذين يسيرون الشأن العام سبا وقذفا وتشهيرا واعتداء على حياتهم الخاصة، سيجدون أنفسهم مجبرين على مراجعة حساباتهم وهم يكتشفون أن كل الذين شملهم نقدنا رفعت أسماؤهم وصورهم في المسيرات والوقفات الاحتجاجية للمطالبة بمحاسبتهم.
في تطوان، رفع المتظاهرون لافتات عليها صور مديرة دار الثقافة سميرة قدري ومندوب وزارة الثقافة وابن المستشار الملكي الراحل مزيان بلفيقه، مطالبين بمحاسبتهم. وقد كنا أول من كسر الصمت حول تجاوزات مديرة دار الثقافة وزوجها المهندس ومندوب وزارة الثقافة، واحتكارهم لصفقات الوزارة في جهة تطوان طنجة، واستفادة الفنانة سميرة قدري من ميزانيات الوزارة لصالح جمعيات تتولى تسييرها هي وسعادة المندوب، وتوفرها على حسابات بنكية في الخارج تودع بها العملة الصعبة دون علم مكتب الصرف أو مكتب الضرائب.