الجمعة، 15 يوليو 2011

قضية رشيد نيني.. مفارقات غريبة

تكشف قضية اعتقال الصحفي رشيد نيني وحبسه عن مفارقات غريبة لا يمكن تصورها في بلدان ديمقراطية حقة، لعل أهمها على الإطلاق دخول المغرب لحظة جديدة من تاريخه الحديث
تبشر بأن مزيدا من الحرية والانفتاح هو على الأبواب. وتمثل الإعلان عن هذه اللحظة في حدثين وطنيين على جانب كبير من الأهمية والاعتبار، شكلت حركة العشرين من فبراير أحدهما، ثم جاء خطاب الملك التاريخي لتاسع مارس ليشكل الحدث الثاني الأبرز في هذه اللحظة، وهو الخطاب الذي كان رشيد نيني في طليعة الإعلاميين الذين احتفوا به أيما احتفاء.
  ومع ذلك، وفي اللحظة التي انكب فيها المغرب على صياغة أهم عقد، يضبط العلاقة بين الحاكمين والمحكومين، عقد الدستور الجديد، دستور محمد السادس، تم اعتقال وحبس أشهر صحفي في المغرب عرف بفضحه للفساد والمفسدين.
 لا أظن أن مضطهدي مدير جريدة «المساء» يريدون الاكتفاء بالانتقام من قلم لا يهادن، يواجه المفسدين بشجاعة وصلابة يعز نظيرها. إنهم يوجهون رسالة إلى كل قوى التغيير، مفادها تحذير الجميع مما يعتبرونه خطوطا حمراء، إنهم يريدون أن يقولوا لكل من يصوغ رأيا حرا بخصوص الفساد والمفسدين: دع عنك هذا واكتب في ما تريده.
   وبسلوكهم هذا إنما يريدون أن يتخلى الصحفيون عن وعيهم الجديد الذي يؤكد أن المغاربة قد تغيروا ولم يعد يخيفهم منطق القواد القدامى والباشوات المستبدين.. وليس أدل على ذلك من بروز واحد منهم على النحو الذي يعرفه الجميع، ويسمى رشيد نيني.
وإذا شكوا في صدقية هذا الدليل، فلا أخالهم سيشكون في صدقية كل هذا الالتفاف حول الرجل، منذ اليوم الأول لاعتقاله ظلما وتجبرا، بل إن جزءا من النخب التي تحتل مواقع خاصة رفضت هي الأخرى هذا الاعتقال. تصوروا وزيرا سابقا في الإعلام، هو الأستاذ محمد العربي المساري، وهو بالمناسبة فاعل سياسي مشهود له بحضور وازن في الحزب الذي يقود الحكومة اليوم، إذ يعبر عن تضامنه مع رشيد نيني، يؤكد أن هذا الاعتقال إنما هو دفع لحسابات مؤجلة. وتصوروا وزيرا للدولة في نفس الحكومة الحالية (نعم في ذات الحكومة التي تتحمل، على الأقل، المسؤولية الأخلاقية في هذه القضية)، هو الأستاذ محمد اليازغي، يقول إنه شخصيا ضد اعتقال رشيد نيني. ومحمد اليازغي هو الكاتب الأول السابق لحزب الاتحاد الاشتراكي الذي يشكل طرفا في الأغلبية الحكومية الحالية، هذا دون أن ننسى أنه نقيب سابق للصحفيين بالمغرب. وليس هناك منتسب واحد إلى حزبه الحكومي، سواء من قيادييه أو من صحفييه، من عبد الهادي خيرات إلى عبد الحميد جماهري ومصطفى العراقي ولحسن لعسيبي... لم يعبر عن رفضه لاعتقال مدير جريدة «المساء». أما العضو القيادي  البارز في حزب الاستقلال والمحامي الشهير والوزير السابق في حكومة التناوب، السيد امحمد الخليفة، فقد انتفض ثائرا ضد هذا العسف.
هل نستمر في تعداد الأصوات الرسمية وشبه الرسمية التي استنكرت اضطهاد مدير يومية «المساء»؟ قد يكون في ذلك بعض الفائدة. لكن اللائحة طويلة تضم مئات الفاعلين السياسيين. أما البقية  في الأغلبية الحكومية وفي جميع أطياف المعارضة مهما تباعدت بينها السبل الفكرية والسياسية، وجموع القراء، فإنها أوسع من أن يضمها كتاب كامل.. قراء بالآلاف وحقوقيون من كل التوجهات ومثقفون، وكتاب من كل الأجناس، يضاف إلى هؤلاء، وهو ما يحمل دلالة كبرى، سياسيون متعارضون تمام التعارض، فكرا وإيديولوجيا واختيارات: من اليميني إلى اليساري إلى الإسلامي المعتدل إلى الإسلامي الرافض إلى الفقيه...
 إنها صورة كاشفة لجلال الفعل المرفوض الذي أقدم عليه سجانو رشيد نيني، بل إن ردود الفعل المستنكرة هاته شكلت واحدة من أبرز الظواهر السياسية التي عرفها المغرب الحديث. ونحن نصفها بهذه الصفة لأنها وقعت في زمن الحرية وزمن الانتصار لحقوق الإنسان.
لم نعد في زمن علامته دار المقري التي اقتيد إليها عميد الصحفيين المغاربة، مصطفى العلوي، مدير أسبوعية «الأسبوع»، ليخضع للتعذيب الذي مارسته عليه زمانئذ زبانية الجنرال أوفقير، ولم نعد حتى في زمن علي لمرابط الذي راح ضحية حكم سيظل يمثل أغرب الأحكام في تاريخ القضاء في كل دول العالم، وذلك بمنعه من ممارسة الكتابة لعقد كامل من الزمن بتهمة لا تقل غرابة عن الحكم.
  نعم، تغير المغرب وما عاد يحتمل الرجوع إلى الخلف، ومن أهم معالم هذا التغير تشبث الصحفيين بأن يحاكموا طبقا لقوانين النشر. ولقد كان سيكون مشرفا للذين حرصوا على أن يسجنوا رشيد نيني، انتقاما من تجرؤ مقالاته على بؤر الفساد، أن يخضعوا، هم أولا وقبل غيرهم، لمنطق التغير هذا الذي يشهده البلد منذ ما يزيد على اثنتي عشرة سنة، وأن يلجؤوا إلى التعامل معه على أساس قانون النشر وليس على أساس غيره. وبهذا السلوك ما كان لهم أن يسقطوا في مخاطر الإساءة إلى سمعة الدولة المغربية داخليا وخارجيا، حيث تجري حركة للتنديد بما أقدمت عليه السلطات في هذا الشأن. ومن المحزن أن نلحظ هذه الحركة في موضوع كان المغرب في غنى عنه، ذلك أن الذين سجنوا مدير «المساء» لا يعون بأنهم يوجهون خطابا مباشرا إلى قوى الحرية والكرامة في العالم، وهو ما من شأنه أن يخلق متاعب للمغرب، وليس أدل على ذلك من اللقاءات التي نظمت في الخارج للتضامن مع رشيد نيني.
   نريد أن يفهم المسؤولون عن أسر الصحفي والكاتب والشاعر رشيد نيني أن كل حركة التضامن الواسعة ومئات المقالات التي حررت من أجل أن يطلق سراحه، ما كانت لتجري بالصورة التي تجري بها لو أن هذا الحجر تم في عهد أوفقير والدليمي والبصري. لقد سميت تلك الحقبة بسنوات الرصاص. ولا يمكن أن ينكر المرء، مهما اشتدت معارضته، أن الزمن الجاري يشكل، بصورة أو أخرى، نفيا مترددا لتلك الحقبة المظلمة وتجاوزا متعثرا لها.. لذا يحق لكل المغاربة أن يصرخوا في وجه هؤلاء المسؤولين: أطلقوا سراح رشيد نيني وطلـّقوا الأزمنة التي ما يزال بعض منكم يحن إليها ويعتبرها العصر الذهبي.



مصطفى خلال

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق