الثلاثاء، 26 أبريل 2011

الجريمة والعقاب

لم تفلح الانتفاضات الشعبية التي عرفها الشارع العربي ولا رياح التغيير التي تهب على الشارع المغربي في تحريك لسان رئيسة جمعية «بيت الحكمة» الناطقة باسم «الأصالة والمعاصرة». لكن كان يكفي أن يصدر الشيخ الفيزازي أو أحد السياسيين المفرج عنهم مؤخرا تصريحا مقتضبا ومجتزَأ من سياقه، لكي تسارع رئيسة الجمعية إلى قرع أجراس الإنذار وإشعال الأضواء الحمراء تحذيرا من مغبة «التطبيع الإعلامي مع عبارات تدل على التطرف وتكفير المجتمع»، في إشارة إلى تصريحات المغراوي حول زواج القاصر وتصريحات الشيخ الفيزازي حول «الملاحدة ومفطري رمضان».
إنها الجهات نفسها تعود اليوم لتحذير الدولة والمجتمع من «خطر التطرف» الذي يتهددنا جميعا. والحال أن هذه الجهات، وعلى رأسها «بيت الحكمة»، كان حريا بها أن تصدر بيانا تحذر فيه من تطرف الأجهزة الأمنية السرية ولجوئها إلى استعمال أشكال وألوان من التعذيب اعتقدنا أنها أصبحت جزءا من الماضي الأسود، فإذا بنا نكتشف بفضل شهادات معتقلين في سجون بنهاشم، أحد أعوان إدريس البصري وأدوات حقبته الدموية، أن مئات المعتقلين السفليين تعرضوا على يد زبانية «عبد اللطيف الحموشي» إلى أنواع بشعة من التعذيب خلال «جلسات» استنطاقهم في معتقل تمارة السري.
إذا كان هناك من بيان يجب أن تصدره اليوم رئيسة «بيت الحكمة»، التي جربت مرارة الاختطاف في عائلتها الصغيرة بسبب اختطاف الأجهزة نفسها لأخيها الرويسي وتعذيبه حتى الموت، فهو البيان الذي يندد بما تعرض له معتقل سلفي اسمه «الشارف»، وما تعرض له زملاؤه المعتقلون في سجون بنهاشم داخل معتقل «الحموشي» السري بتمارة.
وعوض أن تحذر الرويسي المغاربة من مخاطر تصريحات الفيزازي والمغراوي ورئيس حركة التوحيد والإصلاح على الانتقال الديمقراطي بالمغرب، كان عليها أن تصدر بيانا واضحا وصريحا وجريئا يحذر المغاربة من خطر الأفعال، المشينة والبشعة والمخالفة لكل الشرائع والقوانين، التي اقترفتها وتقترفها زبانية «الحموشي» في المخافر السرية.
فما يهدد المغرب وانتقاله الديمقراطي وسمعته ليس هو كلام مشايخ سلفيين ومعتقلين سابقين وزعماء سياسيين تدخل تصريحاتهم في إطار حرية الرأي والتعبير، بل إن أكبر ما يهدد سمعة المغرب وانتقاله الديمقراطي، الذي وضع معالمـَه الملكُ في خطابه الأخير، هو الأفعال المشينة لأجهزة الأمن السرية.
بمعنى أن المشكل اليوم في المغرب ليس في الأقوال المستفزة وإنما في الأفعال المشينة، ولذلك فالإدانة الصريحة والواضحة من طرف جمعيات المجتمع المدني يجب أن تكون موجهة إلى من يقترفون هذه الأفعال المشينة ضدا على الكرامة البشرية والقوانين الدولية التي التزم بها المغرب ووقع عليها.
لقد كان على خديجة الرويسي أن تطالب الدولة بإجراء خبرة طبية على «الشارف» وكل من يدعون أنهم تعرضوا للتعذيب في معتقل تمارة السري، لكي تبرئ ذمتها وتظهر الحقيقة للعلن.
فإما أن هذا الرجل يكذب، وهو بذلك يسيء إلى سمعة بلد بكامله، ولذلك يجب تطبيق القانون في حقه، وإما أنه يقول الحق، وهنا يجب فتح تحقيق لمعرفة جلاديه الذين أجلسوه على «القرعة» وتسببوا له في خروج أمعائه وضربوا جهازه التناسلي وتسببوا له في فقدان رجولته.
إن من يقترف هذه الجرائم النكراء، المهينة لآدمية البشر والمنافية لكل القوانين والأعراف الإنسانية، يستحق أن يجرجر أمام العدالة، مهما كانت رتبه، لكي يجيب عن جرائمه. فالمغرب اليوم، بسبب كل هذه الأشرطة التي تصدر من سجون «بنهاشم» والتي يحكي فيها أصحابها الأهوال التي تعرضوا لها على أيدي جلادين عديمي المروءة والإنسانية، يدفع الثمن غاليا من سمعته وكرامة أبنائه التي مرغها هؤلاء المرضى في الوحل.
اليوم، لم يعد مطلوبا أن تعترف الدولة بوجود معتقل سري في تمارة يتم فيه تعذيب المعتقلين المختطفين، فالشريط الذي بثه في «يوتوب» عبد الرحيم طارق، المخبر السابق الذي اشتغل إلى جانب الجنرال «العنيكري» و«مهراد» و«الحموشي»، يكشف حقيقة وجود هذا المعتقل من طرف مخبر تلقى تدريبا داخله.
المطلوب اليوم هو إغلاق هذه «الشوهة» التي تلطخ سمعة المغرب في الداخل والخارج، وتقديم المسؤولين عن وجودها والمشرفين على تسييرها إلى العدالة بوصفهم خارجين عن القانون.
إن دولة تحترم نفسها ومواطنيها لا يمكن أن تستمر في إغماض العين عن كارثة قانونية وإنسانية اسمها معتقل «تمارة السري».
فهذا المعتقل الرهيب هو التجسيد الأسمى لدولة البوليس التي تتصرف فوق القانون وتستعمل التعذيب والاختطاف كوسائل لفبركة الملفات وإرسال الناس إلى السجون.
إن المغرب، الذي رسم الملك ملامحه في خطابه الثوري ليوم التاسع من مارس، لا يستقيم مع وجود مثل هذه الأماكن القذرة التي تستعرض داخلها الأجهزة السرية عضلاتها المفتولة وأدوات تعذيبها الجاهلية أمام معتقلين لا حول لهم ولا قوة، معصوبي العيون، مغلولي الأيدي والأرجل.
لذلك فالذين يريدون اليوم تغيير مسار النقاش حول ضرورة الاقتصاص من الجلادين عبر تركيز الأنظار على تصريحات الشيخ الفيزازي، التي تم التلاعب بها، أو تصريحات المغراوي أو تصريحات أعضاء حركة التوحيد والإصلاح، وجعل هذه التصريحات حصان طروادة الذي سيعودون عبره إلى واجهة «الأحداث» لكي يقدموا أنفسهم كفدائيين يسترخصون دماءهم من أجل حماية الوطن من المتطرفين والظلاميين، يجب أن يعرفوا أن المغرب تغير كثيرا.
فالمغرب الذي كان قبل التاسع من مارس ليس هو المغرب الذي نعيش فيه اليوم. مغرب اليوم، الحقيقي وليس «مغرب اليوم» الذي يحلم به أشباح البصري، لم يعد فيه مكان للصحافة التي تقتات على أسطورة التصدي للتطرف الإسلامي وحماية المغاربة من «الظلاميين».
فالوقائع أثبتت أن الظلاميين الحقيقيين اليوم في المغرب هم بعض مدراء الأجهزة الأمنية السرية الذين يقترفون تحت جنح الظلام جرائم بشعة يشيب لها الولدان. وإذا كان هناك من متطرفين خطرين على أمن المغرب وانتقاله الديمقراطي فهم بالضبط هؤلاء الأمنيون الخارجون عن القانون.
إن وظيفة الإعلام، كسلطة رابعة، ووظيفة جمعيات المجتمع المدني هي الدفاع عن الكرامة والحرية والحقيقة. ولذلك، فالصحافة والمجتمع المدني يجب أن يكونا في خندق ضحايا هذا المعتقل الرهيب وفي طليعة المطالبين بإغلاقه ومحاكمة جلاديه.
لكن يبدو أن جزءا من الإعلام والمجتمع المدني اختار أن يعزف على المقطوعة القديمة التي يقتات بفضلها من أيدي «الجهات المانحة»، مفضلا توجيه مدفعيته نحو المعتقلين المفرج عنهم مؤخرا عوض توجيهها نحو الجهات التي تسببت في اعتقال هؤلاء المتهمين وتعذيبهم.
والمضحك في معركة «فدائيي الحموشي» هؤلاء أنهم يستدلون بتصريحات هؤلاء المعتقلين والسياسيين والشيوخ لتخويف النظام من خطر الردة على الديمقراطية. والحال أن أكبر ما يهدد الانتقال الديمقراطي هو عودة هذا الخطاب الإعلامي والحقوقي الاستئصالي للانتعاش من جديد، بعدما عرف فترة بيات شتوي في السنوات الأخيرة.
لذلك، فلا غرابة في أن يشهد الحقل الإعلامي والحقوقي عودة مظفرة لمن كانوا يسمون أنفسهم «عباد الشمس»، أي أولئك «الفهايمية» الذين يستطيعون تغيير ألوان جلودهم أسرع مما تستطيع الحرباء ذلك، والذين سوقوا للدولة عن أنفسهم قدرتهم الخارقة على الدفاع عنها ضد خطر التطرف الإسلامي.
والنتيجة هي ما نراه اليوم.. مئات المعتقلين السلفيين الذين سيغادرون السجون بعدما قضوا داخلها سنوات طويلة منحهم فيها «بنهاشم»، على حساب الدولة، فرصة التعارف في ما بينهم وتعميق قناعاتهم الدينية وترسيخ أفكارهم السلفية.
لقد حان الوقت للقطع مع محاكمة النوايا والسرائر، ونصب مشانق للناس بسبب الشك في كونهم ربما يخططون لشيء ما. إن محاكم التفتيش هذه يجب أن تزول إلى غير رجعة، فالسيادة يجب أن تكون للقانون ولا شيء سوى القانون.
الاستدعاء يجب أن يكون بالقانون والاستنطاق بالقانون والاعتقال بالقانون والحكم بالعدل. هذا ما يطلبه الشعب اليوم.
ولعل القطع مع عهد التعليمات وزمن «بوخنشة» و«بوقرعة» والدخول في عهد سيادة القانون هو ما سيجنب الدولة والمجتمع خطر الوقوع في الردة والانقلاب على المسار الديمقراطي الذي سطره الملك في خطابه التاريخي الأخير.
واضح اليوم أن هناك قوى نافذة تستعين بوسائل الدولة من أجل فرملة هذا المسار الديمقراطي الذي يقوده بجرأة ملك البلاد. ولعل واحدة من حيل هذه القوى الشريرة لوضع العصا في العجلة هي العودة إلى استخراج أسطوانة «خطر التطرف الديني» وتحريكها مثل الفزاعة أمام وجه الدولة.
إنها طريقة غبية لتغيير النقاش وصرف الأنظار عن المشكل الحقيقي في البلد اليوم، والذي ليس شيئا آخر غير «خطر التطرف الأمني» الذي أصبح يهدد الدولة والمجتمع ويزرع الإرهاب عوض الأمن.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق