الأحد، 10 أبريل 2011

«الضريبة» تحت الحزام

رغم أن المتدرب فؤاد عالي الهمة، الذي بدأ مشواره المهني في أقسام وزارة الداخلية على عهد وزيرها القوي إدريس البصري، كان يخاف من سطوة «الصدر الأعظم»، فإنه سيكشف بمجرد ما سيحكم قبضته على وزارة الداخلية، بعد الاستغناء عن البصري، أن أحسن طريقة لفرض الهيمنة على مؤسسات الدولة هي التحكم في ذراعيها السياسي والمالي، أي إعادة إنتاج البنية السلطوية نفسها التي نجح البصري في وضع أسسها، مع فارق بسيط هو أن البصري احتاج إلى أكثر من ثلاثين سنة لتأسيس هذه البنية الجهنمية، بينما لم يحتج تلميذه فؤاد عالي الهمة سوى إلى عشر سنوات لإحكام سيطرته على عالم السياسة والمال.
ومثلما نجح البصري في وضع رجال الأعمال تحت قدميه عندما هندس لحملة التطهير الشهيرة، التي استعمل فيها القضاء والإعلام لإشاعة أجواء الرعب داخل طبقة البورجوازيين، الذين ارتفعت درجة حرارة بعضهم في الصالونات الخاصة وبدؤوا يتجرؤون على انتقاد الحسن الثاني في مسامراتهم.
لا ننسى أن أول من مهد الطريق أمام حملة إدريس البصري كان هو رجل الإشهار المفضل بالنسبة للداخلية، نور الدين عيوش، صاحب وكالة «شمس»، الذي فوّت له البصري صفقة بقيمة 750 مليون سنتيم للدعاية لحملة ضد التهريب في التلفزيون.
وبمجرد ما انتهت الحملة في التلفزيون بدأت في أوساط رجال المال والأعمال، وشرع «العفورة»، يد البصري التي كان يبطش بها، إلى اعتقال المطلوبين واستنطاقهم وتعذيبهم في قبو المحكمة، التي يمثلون أمامها، والتي كان القاضي أنيس الطيب والزنوري جمال، الذي كان ينام في الجلسات لطولها، يشرفان على تنفيذ أحكامها تحت أنظار مولاي الطيب الشرقاوي الوكيل العام للملك آنذاك، الذي كان يتلقى التعليمات مباشرة من عبد الرحمان أمالو وزير العدل آنذاك، الذي كان معتكفا طيلة الوقت بمكتب إدريس البصري.
عندما تسلم الهمة مقاليد السلطة بالداخلية من يد البصري كانت الأمور قد تغيرت بما لا يسمح بإعادة الكرة من جديد بنفس الأساليب والطرق البشعة. وهكذا تم اللجوء إلى أساليب أخرى أكثر ذكاء ومكرا جعلت الطبقة السياسية وطبقة رجال المال والأعمال خاضعة لنفوذه.
وأول شيء بدأ به الهمة هو وضع مولاي حفيظ العلمي على رأس «فيدرالية الباطرونا»، ثم فعل كل ما بوسعه لكي يطيح بالمدير العام لمديرية الضرائب، «بنسودة»، لكي يعوضه بعبد اللطيف زغنون، الذي أتى به من اليوسفية التي كان يشتغل بها مهندسا منجميا وعينه مديرا على إدارة الجمارك.
إن المخطط الجهنمي الذي نجح الهمة في تحقيقه هو إحكامه السيطرة على الحقل السياسي بتأسيس حزب أصبح لديه أكبر فريق برلماني، حتى دون أن يكون مجبرا على المشاركة في الانتخابات، ولديه القدرة على عرقلة مشاريع القوانين في البرلمان وإسقاط الحكومة.
وبنجاحه في إحكام السيطرة على المدن الكبرى والدخول في تشكيلات مجالس المدن، التي أفلتت من السطو وممارسة الحكم عبر سياسة «التدبير المفوض للرئاسة»، كما حدث في عُمديتي الرباط والدار البيضاء، استطاع الهمة أن يخضع مجالس أهم المدن التي تعرف نشاطا اقتصاديا وعمرانيا سريعا، أي بعبارة أخرى عائدات ضريبية مهمة.
وهنا ستأتي المرحلة الثانية من مخطط الهمة الجهنمي، الذي سيعمل بموجبه ابن الرحامنة على تركيع المجموعات المالية الكبرى وإشاعة أجواء الرعب الاقتصادي التي كانت سائدة أيام إدريس البصري.
فقد فهم الهمة وتابعه إلياس العماري أن تحكمهما في مفاصل الحقل السياسي لن يكون ذا جدوى إذا لم يصاحبه تحكم في مفاصل الحقل المالي والاقتصادي. فالسوط الذي يخشاه السياسيون، الذين يوجد نصفهم في مجال المال والأعمال، هو الضريبة، فهم يخافون من مفتش الضرائب أكثر مما يخافون من عزرائيل.
وفي ظرف وجيز جدا أصبح الهمة يتحكم في وزارة المالية، القلب النابض للاقتصاد الوطني، وخصوصا أذرعها الضاربة المتمثلة في إدارة الجمارك، التي وضع على رأسها رجل ثقته «زغنون»، ووزارة المالية التي يوجد على رأسها رجل ظله الذي لا يفارقه وحليفه السياسي صلاح الدين مزوار، والإدارة العامة للضرائب التي نجح في إزاحة «بنسودة» من رئاستها ووضع فيها «زغنون» بعد أن أنهى هذا الأخير مهمته في إدارة الجمارك وتركها بين أيدي «زهير الشرفي» رجل ثقة صلاح الدين مزوار، الذي منذ أن نصبه هذا الأخير على رأس إدارة الجمارك أقفل عليه باب مكتبه ودخل في اعتكاف مفتوح.
كيف إذن استطاع الهمة، بفضل تقارير «الحموشي» مدير «الديستي»، والتلميذ المطيع الذي ينط من مكانه مفزوعا بمجرد ما يتصل به إلياس العماري بالهاتف، أن يطيح بمدير إدارة الضرائب القوي الذي تكفل من جهته بتأديب كل من ارتفعت درجة حرارته وانفكت عقدة لسانه؟
ولعل الشامي الرئيس السابق لفدرالية «الباطرونا»، الذي كان سباقا إلى الشكوى من تدخلات بعض أفراد المحيط الملكي في شغل الوزير الأول إدريس جطو، أخذ علقة ضريبية ساخنة من يد «بنسودة» عقابا له على «خفة الرجل» هذه. وهي العلقة الضريبية نفسها التي ذاق منها «بناني»، بعدما كانت له الجرأة على تقديم استقالته من منصب مدير عام «وفا بنك» عشية اندماجه مع بنك BCM .

وربما لازال ولعلو يتذكر عندما كان وزيرا للمالية وطلب منه «بنسودة» أن يمنحه مسؤولية استخلاص الضريبة على القيمة المضافة والضريبة على الدخل وتفتيش المؤسسات العمومية ضريبيا كبريد المغرب والمكتب الوطني للماء والكهرباء للحصول على تعويضات تصل إلى 100 مليون سنتيم عن كل تفتيش.
وبين سنة 1998 تاريخ تعيينه مديرا عاما للضرائب، و2010 تاريخ إعفائه وإعطائه منصب الخازن العام للمملكة، صاحب أعلى راتب في الوظيفة العمومية، استطاع «بنسودة» أن يتحول إلى رجل أعمال وصاحب شركات ومشاريع عقارية متعددة.
وربما هذا ما جلب عليه عيون رجال «الحموشي»، الذين يرسلهم الهمة وراء كل من يضعه بين عينيه.
وبين قصره في طريق زعير بالرباط، والشقة الفارهة بمنتجع بوزنيقة الشاطئي، والفيلا المقابلة للبحر في كابيلا بالفنيدق، والفيلا الموجودة ببوسكورة بالدار البيضاء، والفيلا الأخرى بمراكش، والشركة العقارية بنفس المدينة، التي حازت أرضا بالقرب من مرجان لبناء مشروع سياحي انتهى بتحويله بعد الحصول على التراخيص إلى مشروع سكني، استطاع «بنسودة» أن يدخل نادي الكبار. لكنه أثار الأنظار حول ممتلكاته، التي يسجلها في المحافظة العقارية باسمه واسم زوجته، والتي أفلتت من أنظار مديرية الضرائب بسبب تأخير العمل بالنظام المعلوماتي الذي أنفق «بنسودة» على شرائه مئات الملايين منذ 2003.
كانت هذه «النويطات» إذن كافية لكي تعصف بمفتش الضرائب الأول في المملكة، الذي كان الجميع يرتعد خوفا منه. فقد كان هناك رجال الأعمال المحظوظون من جهة، الذين كان «يوقرهم» رجال «بنسودة»، مثلما كان هناك رجال الأعمال الآخرون، الذين ينافسون هؤلاء المحظوظين في السوق، والذين كان رجال «بنسودة» يضعونهم على قوائم «المطلوبين» للخضوع للمراجعات الضريبية. بمعنى آخر من يتحكم في آلة الجهاز الضريبي يضع يده على العصب الحي للسلطة. وهذا ما فهمه الهمة وتابعه إلياس العماري وسعيا إلى تحقيقه ونجحا فيه بشكل باهر.
واليوم بنجاح الهمة في فرض رجل ثقته «عبد اللطيف زغنون» على رأس مديرية الضرائب، وحليفه السياسي على رأس وزارة المالية، ورجل ثقة حليفه على رأس إدارة الجمارك، يكون قد أقفل الدائرة الجهنمية التي خطط لها بعناية، وهي نفسها الدائرة التي سبقه إلى إقفالها إدريس البصري، ورأى الجميع النهاية الدرامية التي أوصل إليها البلاد في أواخر أيام الحسن الثاني، والنهاية التراجيدية التي وصل إليها شخصيا في أواخر أيام حياته.
لكن يبدو أن الناس لا يتعظون بمصائر من سبقوهم في الركض وراء السلطة. ولذلك يسعون إلى تكرار الأخطاء والحماقات نفسها التي اقترفها سابقوهم.
ولعل أولى الأولويات اليوم للخروج من هذا النفق المظلم، الذي أدخل فيه الهمة الحقل السياسي والمالي، هو تخليص مؤسسات الدولة السياسية والاقتصادية من رجال ظل هذا الرجل، وتحكيم القوانين وحدها في الفصل بين النزاعات والمخالفات عوض الاحتكام إلى تصفية الحسابات والابتزاز والضرب تحت الحزام.
بمعنى آخر يجب أن يدخل المغرب عهد دولة القانون وأن يقطع مع دولة التعليمات والوساطات.
كل هذه «السلخات» الضريبية تكفل بتنفيذها «بنسودة» على نحو مضبوط. وهكذا استطاع ابن بائع «الزيت البلدية»، كما كان يحلو له تسمية نفسه، أن يغادر إدارة الضرائب وقد غادر إلى غير رجعة ضفة الموظفين البسطاء التي عمر بها منذ كان مفتشا في السلم الحادي عشر ولم يناقش بعد رسالته، ويسمن راتبه بتعويضات أسفار «الدبلوماسية الضريبية»، التي كان يقوم بها لمختلف أرجاء بقاع العالم بتعويض يومي عن التنقل وصل إلى 10 آلاف درهم لليوم.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق