الاثنين، 11 أبريل 2011

وشاورهم في الأمر

عندما نبحث في لائحة مستشاري الملك، نعثر على بعض الأسماء التي توارت إلى النسيان. من يتذكر مثلا أسماء مستشارين مثل عمر القباج ومحمد الكتاني وعلال السي ناصر وعباس الجراري وغيرهم؟
ولعل الملك اليوم، أكثر من أي وقت مضى، بحاجة إلى مستشارين يملكون الجرأة اللازمة لقول الحقيقة كاملة بدون زيف أو تزويق.
مستشارون يستطيعون أن يلخصوا في تقرير مفصل وعميق ما تعيشه البلاد اليوم من تحديات وصعوبات، أسوة بذلك التقرير القصير والعميق، الذي وجهه مولاي أحمد العراقي، الوزير الأول آنذاك، إلى الحسن الثاني بعد انقلاب الصخيرات.
وهؤلاء المستشارون مدعوون لكي يتعلموا من رجالات الحسن الثاني المقربين الجرأة في الحديث إلى الملك، بدون أن يضعوا بين جملة وجملة عبارات الثناء والولاء والإخلاص والنفاق.
وثانيا، هم مدعوون لكي يتعلموا من  تقرير مولاي أحمد العراقي القدرة على شرح مكامن الخلل في مملكة الملك، وتقديم الحلول العاجلة لإنقاذ البلاد من السكتة القلبية، التي تشير كل التقارير الدولية ومؤشرات الظرفية العالمية إلى أننا ذاهبون نحوها ما لم نختر اللجوء إلى ما سماه الدكتور العراقي آنذاك بالصدمات الكهربائية كحل أخير لإنقاذ هذه الحالة المستعجلة المسماة مغربا.
ولعل كل من يعيد قراءة التقرير القصير والمركز، الذي كتبه وزير الحسن الثاني الأول، بطلب من هذا الأخير، لفهم الأسباب العميقة التي انتهت بالعسكر إلى تغيير البندقية من كتف إلى كتف وتوجيه فوهاتها نحو الملك في انقلاب الصخيرات الدامي، يخيل إليه أن هذا التقرير كتب بالأمس فقط وليس سنة 1971.
ويبدو أن الدكتور العراقي عندما كان يكتب تقريره الطبي حول حالة المغرب الصحية، كان الملك يفكر في بيت الشاعر الذي يقول «وداوني بالتي كانت هي الداء»، ولذلك اخترع أبشع المعتقلات السرية وأرسل إليها معارضيه وعاد إلى ليالي أنسه وجوقه الملكي الذي كان يسيره أكثر مما كان يسير بلاده. وفي الوقت الذي كان وزير الملك يتحدث عن ضرورة «الأخذ بزمام الرأي العام الوطني، الذي يحتاج لأن يؤطر سياسيا، ويربى على المواطنة، وتصله الأخبار بشكل موضوعي وكامل»، كان الملك يفكر في تربية الرأي العام الوطني على الخوف والرعب، مع حرص شديد على أن تصله الأخبار بالشكل الذي يختاره وزيره في الداخلية والإعلام إدريس البصري، فنجح في أن يسلم ولي عهده على العرش شعبا تربى على الخوف والغباء وعدم الاهتمام عوض الاحترام والذكاء والمبادرة، وهو ما نبه إليه الدكتور العراقي في تقريره عندما قال للحسن الثاني: «لاشك أن إفراغ الرأي العام من حسه النضالي يشكل خطرا جسيما. من جانب، فهو يخضع لكل أنواع التسميم من قبل المعارضة الوطنية أو الدولية. ومن جانب آخر، لا يجد أي تأطير في المواطنة أو السياسة. فلماذا نندهش إذن من غبائه ومن عدم اهتمامه؟».
هذا الكلام قيل قبل سبع وثلاثين سنة، والمدهش أننا لازلنا، اليوم، نسمع كل من يصعد منصة ويقف أمام ميكروفون يردده مثل ببغاء. وآخرهم فؤاد عالي الهمة الذي اكتشف، متأخرا على ما يبدو، أن هناك إفراغا للرأي العام من حسه النضالي وغيابا للتأطير على المواطنة وعزوفا عن السياسة. ولعل هذا وحده يدل على أن لا شيء مما وصفه الدكتور العراقي لعلاج «المريض المغربي» (مع الاعتذار لمخرج فيلم «المريض الإنجليزي»)، تم أخذه بعين الاعتبار.
 الذي وقع هو العكس تماما، إذ استمر النظام «يدمن» على التغذية الذهنية نفسها، ويتعاطى حياة الرفاهية، وينام حتى منتصف النهار، إلى أن وصل نهاية التسعينيات إلى حافة السكتة القلبية، فنصحه الأطباء ببيع ممتلكات الشعب للأجانب والاستعانة بثمن ذلك على العيش فترة إضافية في غرفة العناية الخاصة. وعندما يخطب الملك محمد السادس في خطاب للعرش ويقول إن المغرب بحاجة إلى طبقة وسطى، فهذا يعني ببساطة أن النظام فشل إلى الآن في خلق هذه الطبقة الضرورية لحيوية الاقتصاد الوطني، وكل ما نجح فيه هو استمرار المعاناة من نفس الأعراض المرضية، التي شخصها الدكتور العراقي للحسن الثاني قبل سبع وثلاثين سنة عندما صارحه قائلا: «لا توجد هناك فرق وزارية وإنما صورة كاريكاتورية للحكومة، والجماعات تتشكل وتتبدل وفقا للمصالح التي تحكمها اللحظة. وفوق ذلك، فالوزراء في غالبيتهم لا يحظون بالفرصة للاقتراب من جلالة الملك إلا نادرا، مما يفسر في الغالب الظلام الدامس، الذي يجدون أنفسهم فيه بخصوص النوايا الحقيقية للملك حول الملفات الكبرى، وبالتالي يسود التأجيل والمحاباة والبحث عن التعليمات عبر الطرق الموازية والتدخل المقصود أو غير المقصود للأشخاص المقربين من الملك بكل ما يحمل ذلك من تنازلات.
باختصار، كل وزير يسبح بكل ما أوتي من قوة على أمل الحفاظ على نفسه، فالشعور بفقدان الأمان يولد الفساد والخوف من الغد وأمثلة الإفلات من العقاب توقع في نهاية المطاف بأكثر الناس نزاهة».
تسع وثلاثون سنة بعد كتابة هذا التقرير، كانت الصحافة المستقلة كلها تتساءل لماذا يتعثر تعيين السفراء والمسؤولين العموميين في المناصب الشاغرة؟. وذهب البعض إلى التساؤل حول مصير مشاريع القوانين التي ترهن حاضر ومستقبل البلد، والتي تقبر في الأمانة العامة للحكومة.  
هناك جملة خطيرة وعميقة ضمنها الدكتور العراقي تقريره، هي أن «أمثلة الإفلات من العقاب توقع في نهاية المطاف بأكثر الناس نزاهة». ما معنى ذلك؟ معناه أن الملك إذا لم يأخذ على عاتقه تقديم المفسدين من وزرائه ومعاونيه وموظفيه السامين إلى القضاء لكي يقول كلمته فيهم، فإن هذا يشجع أكثر هؤلاء نزاهة على التخلي عن نزاهته وتقليد المفسدين الآخرين، فالإفلات من العقاب هو التأشيرة الوحيدة التي يحتاجها الفساد لكي يستقر في مملكة ما إلى أن يهد أركانها.
هل حوكم وزير واحد في المغرب منذ محاكمة الوزراء الشهيرة على عهد الحسن الثاني بتهمة الارتشاء أو استغلال النفوذ؟.
في إسبانيا تابع الجميع قضية هزت الرأي العام، هي قضية «ليغال» التي تورطت فيها حكومة فيليبي غونزاليس الاشتراكية عندما اختطفت وعذبت وقتلت إرهابيين من منظمة «إيتا» الباسكية خارج القانون. كانت الصحافة أول من أثار هذه الفضيحة التي انتهت سنة 1998 بتوزيع عشرات السنوات من السجن على رئيس الشرطة ورئيس المخابرات ومسؤولين آخرين في الداخلية والأمن. أما فيليبي غونزاليس فقد كلفته هذه الفضيحة منصبه كرئيس للحكومة بعدما ترشح للانتخابات وخسر أمام اليمين.
الرسالة كانت واضحة، في إسبانيا الديمقراطية ليس مسموحا لأجهزة الدولة بأن تعتقل أو تحقق خارج القانون، حتى لو تعلق الأمر بإرهابيين دمويين يفجرون السيارات الملغومة أمام المدارس والفنادق والمقاهي، ويصفون القضاة والصحافيين وعمداء المدن بالمسدسات الكاتمة للصوت.
عندنا في المغرب قامت أجهزة «الحموشي» بخطف المتهمين بالإرهاب من بيوتهم ليلا، واستنطقتهم تحت الضرب والاغتصاب في معتقلات سرية، ومنهم من قتلته من فرط التعذيب. وفي الأخير يأتي وزير الداخلية إلى البرلمان ويملك الشجاعة لكي يبرر الاختطاف والاعتقال السري بكونه مجرد شكليات، وكأنه يجهل أن الشكليات هي أهم شيء في المساطر القانونية، وبدون احترامها تسقط المتابعة أصلا.
ورغم أن الجميع بات متفقا على أن تجاوزات خطيرة وقعت في ملف ما يسمى بالسلفية الجهادية، فإن آلاف المعتقلين لازالوا وراء القضبان، بل أضيف إليهم معتقلون سياسيون حلت أحزابهم ولفقت لهم تهم ثقيلة إرضاء لجهات في الدولة تريد إشاعة «الإرهاب السياسي» باستعمال سلطة القضاء من أجل التحكم في الحقل السياسي.
ورغم كل ذلك فالجلادون الذين علقوا المتهمين في مخافرهم السرية لازالوا في وظائفهم يشغلون مناصب المسؤولية كما لو أنهم ينتظرون أن تعلق لهم أوسمة مكافأة لهم على كل التلطيخ الذي ألحقوه بسمعة المغرب وكرامة أبنائه.
ولكي تتأكدوا بشكل قاطع أن تقرير الدكتور العراقي لازال صالحا إلى اليوم ما عليكم سوى أن تتأملوا هذا الوصف السياسي الدقيق لحال السياسيين والإعلام والاقتصاد والممثلين البرلمانيين لمغرب الحسن الثاني بداية السبعينيات وشبهه الشديد بمغرب محمد السادس الحالي. يقول الدكتور: «فهل من الطبيعي أن يقضي التلفزيون والإذاعة وقتهما في تسميم الرأي العام بالموسيقى والتاريخ بدل تربية الشعب؟ أي دور يقوم به النواب داخل دوائرهم؟ هل هم فعلا مؤهلون للقيام بمهامهم، أم أنهم يكتفون بوضع أربعة آلاف درهم في جيوبهم ويحلون مشاكلهم الخاصة في كواليس البرلمان؟ أليسوا منخرطين في اللعبة التي لا طعم لها لبعض القادة الذين يقتنصون اللحظة؟.
هل العالم الاقتصادي المغربي على علم بحقائقنا الحقيقية أم أنه هو أيضا اشتغل بالإشاعة العمومية، والبورجوازية الكبرى منشغلة باقتناص الفرص أكثر منها بتشجيع اقتصاد البلاد؟ ما هي اختياراتنا الكبرى؟ هل تناقش أرقامها وهل تطبق كما ينبغي؟. هل لدينا سياسة للشغل؟ سياسة زراعية؟ استراتيجية للتنمية؟.
هل تستجيب سياستنا المدرسية لاستراتيجية على المدى البعيد، أم أنها تكتفي بالعيش على أدنى مستوى لتتجنب الأزمات؟ باختصار، هل نحن على المسار الصحيح أم لا؟ لماذا نندهش إذن من اندلاع مأساة كتلك التي وقعت في الصخيرات؟».
ما أشبه الليلة بالبارحة. نفس برامج الأغاني والتاريخ المجيد تتكرر في القناة الأولى والثانية، ونفس نماذج البرلمانيين الذين لا فرق بينهم وبين برلمانيي السبعينيات سوى أنهم اليوم أصبحوا يتقاضون ثلاثين ألف درهم عوض أربعة آلاف درهم. ونفس المنخرطين في اللعبة التي لا طعم لها لبعض القادة الذين يقتنصون اللحظة كالهمة وفريقه البرلماني الذي جمعه في رمشة عين. نفس البورجوازيين المنشغلين باقتناص الفرص أكثر من تشجيع اقتصاد البلاد، والذين اختلطت على بعضهم حروف الثروة بالثورة.
 نفس «علماء» الاقتصاد الذين ينشرون إشاعة النمو الخارق للاقتصاد المغربي، في وقت يعترف فيه وزراء اقتصاد دول أوربية، يعادل الدخل السنوي لواحدة منها دخل الدول العربية جميعها، بأن النمو يوجد في مرحلة الصفر وأن الأسوأ ينتظرهم. نفس التساؤلات حول السياسة التعليمية التي انتهت إلى الإفلاس.
باختصار، نفس السؤال الملح الذي يواجهنا في كل مرة: «هل نحن على المسار الصحيح أم لا؟».
لماذا نندهش إذن من خروج الشباب إلى الشوارع للمطالبة بتخليصهم من وحش الفساد الذي يغرس أنيابه في أجسادهم ويغتصب أحلامهم المشروعة بالعثور على شغل ومسكن وحياة كريمة ؟.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق